ولكن كيف نصدق تلك الروايات وجميل نفسه يؤكد لنا في أشعاره أنه كان يقضى الليل كله بصحبة بثينة | فامتنع جميل واعتذر بإهدار السلطان دمه إن وجدوه عندها، وأشار له إلى أبياتها |
---|---|
لامني فيكِ، يا بُثينةُ، صَحبي لا تلوموا، قد أقرحَ الحبُّ قلبي! حقيقة حب جميل وبثينة هناك الكثير من الأقاويل حول وجود بثينة وجميل حتى الصباح معاً، وقد شاهدهم بائع اللبن، وذهب لكي يُحذر زوجها، ولكن صديقة بثينة علمت بالأمر وذهب إليها مسرعة، واستطاعوا تخبئة جميل، ونامت صديقتها بجوارها، وعندما جاؤوا لكي يكتشفوا خيانة بثنية لزوجها، وجدوا صديقتها فذهبوا والخجل يملأهم | ومن أخباره، فيما تقصّاه: «بين نظيرين» والنظيران هنا هما جميل وعمر بن أبى ربيعة |
كان مذهب طه حسين حيال تلك القصص وهؤلاء الشخوص، يفيد بأن الشعر العذري صدر طبيعياً عن قوم كانوا يشعرون ويتألمون، وهذه القصص وضعت في ما بعد.
وظل جميل يتردد على ديار بثينة، فما كان من أهلها إلا أن شَكَوْه إلى والي المدينة مروان بن الحكم الذي أهدر دمه، فخرج جميل من البلاد يتنقل بين الشام واليمن إلى أن وصل إلى مصر | فتقدم عمر حتى وقف على الأبيات وتأنّس حتى كلِّم، فقال: يا جارية أنا عمر بن أبى ربيعة فأعلمى بثينة مكانى، فخرجت إليه بثينة فى مباذلها وهى تقول: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللائى يزعمن أن قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر، ونظر فإذا امرأة أدماء طوالة |
---|---|
وكأنما يئس جميل من هذه المطاردة التي لا تنتهي، والتي أصبح الأمل فيها ضعيفا، والفرصة ضيقة | فاضجعت وأخذها النوم، ولما استوثق جميل من ذلك، نهض إلى راحلته ومضى |
وهذا كله لم يغير من الأمر شيئا، ولم يفلح في إطفاء الجذوة المتقدة في قلبي العاشقين.
26وأعاد أهلها شكواهم إلى السلطان، فطلبه طلبا شديداً | فازداد هيامًا بها، وكأن يأتيها سرًّا ومنزلها فتناقل الناس أخبارهما |
---|---|
لكن الأرجح، بحسب الرواة، أنه من بني عذرة ومن أشهر شعراء الغزل «العذريين» ليس نسبة لبني عذرة، وإنما لأنه التمس الحب في السماء، كعادة الشعراء العذريين، الذين يرتبط كل منهم بمحبوبة واحدة طوال حياته | إذا كان إنكار هؤلاء الشعراء قد أخل بالمجد الأدبي العربي، فإن طه حسين لم ينكرهم هباءً |
ولم يعلم أحد مدى صحة هذا الحكايات، ولكن في النهاية سمع جميل أن الخليفة أهدر دمه، فذهب إلى اليمن ومكث فيها فترة من الوقت، وألتقى هناك ببثينة أكثر من مرة، ثم أصابه اليأس، وكان يكتب شعر الغزل العفيف لها، ثم رحل بعد ذلك جميل إلى مصر، وذهب لعبد العزيز بن مروان، ووجد اهتمام وكرم كبير منه، وأمر بتوفير بيت له للإقامة به، وبالفعل جلس به لفترة بسيطة، وكان يبكي لفراق محبوبته، وقلبه مكسور، وبعدها بوقت قصير توفى، وتم دفنه في مصر، وعندما علمت بثينة بهذا الخبر كتبت شعر الرثاء له، وندمت على زواجها من شخص أخر غيره.
4